القراءة الإنجيلية من متى الإصحاح

August 14th, 2020 | By His Eminence, Metropolitan Basilios | Available in English | [avatar user=”metropolitan” size=”50″ align=”right” link=”https://www.antiochian.org.au/author/metropolitan/” target=”_blank”][/avatar]

الأحد العاشر بعد العنصرة

هذا هو الأحد العاشر بعد العنصرة القراءة الإنجيلية من متى الإصحاح (17: 14- 23) وهي حادثة شفاء الصبي الذي به شيطان، تأتي هذه الحادثة من بعد حدَث تجلّي الرب على الجبل أمام بطرس ويعقوب ويوحنا ولما نزلوا من الجبل وجاؤوا إلى بقية التلاميذ والجمع: ” تقدّم إليه رجل جاثياً له وقائلاً: يا سيّد ارحم ابني فإنه يُعذَّب في رؤوس الأهلة ويتألم شديداً لأنه يقع كثيراً في النار وكثيراً في الماء”.

لقد أحضر هذا الأب ابنه معتقداً أنه كان مُصاباً بالصرع من سبب تأثير القمر! لقد اعتقد أن ما يحدث لإبنه له علاقة باكتمال القمر ” يُعذَّب في رؤوس الآهلة”. ولكن في هذه الحالة بالذات لم يكن القمر هو السبب ولكن الشيطان عدو الإنسان. لقد أضل الشيطان الناس وخدعهم بأن السبب هو من القمر وطالما اعتقد الناس بأن الشر يأتي من القمر – خليقة الله – فهم كانوا يُجدفون على خليقته وأعمال يديه على أنها شريرة وغير صالحة. وهذا يُعارض تماماً فكرة أنه عند الخلق، “رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسنٌ جداً ” (تك 1: 31). لقد خلق الله هذه الكواكب والنجوم لتُظهر عَظَمَة الخالق ونُمجده على أعماله: ” السموات تذيع مجد الله والفَلَك يُخبر بعمل يديه” (مز 19: 1) وأيضاً يقول المزمور” صنعَ القمرللأوقات والشمس عرفت غروبها، ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت”. (مزمور 104). اما الشيطان المضلّ فقد خدع الإنسان وجعله يظن أن هذا الشرّ يأتي من القمر حتى يجدِّف الإنسان على الله وخليقته.

يظهر من وصف الأب أن هذا الشيطان كان يُعذّب ابنه ويلقيه في النار أو الماء ليهلكه وفي هذا تشابه فيما فعله الشيطان عندما خرج من الإنسان الممسوس في كورة الجرجسيين ودخلت في الخنازير إذ يقول الإنجيل: ” فاندفع القطيع من على الجرف إلى البحيرة واختنق” (لوقا 8: 33). إذاً في حالة هذا الشاب يبدو أن سبب مرضه لا يعود إلى أسباب صحية طبيعية ولكن وراء صَرَعِه تكمُن قوة شريرة شيطانية لذلك يُدعى أيضاً ” ممسوساً” أو ” مسكوناً بروح نجس ” (لوقا 9: 42). هذه الحادثة مذكورة أيضاً في إنجيل مرقس( 9: 17- 29) و(لوقا 9: 37-42) وكلاهما أضافا تفاصيل أخرى عن حالة هذا الصبي ففي مرقس كان الصبي ممسوساً ب”روح أخرس” وعند لوقا كان هذا “ابن وحيد لأبيه” وكان الصبي “يصرخ بغتة فيصرعه مزبداً وبالجهد يُفارقه مرضضاً إياه” (لوقا 9: 39)  إذ يبدو من هذا الوصف أن الصبي كان مسكوناً بالشيطان الذي كان يؤذيه ويُعذبه وكان يتقصّد أيضاً حتى قتله.

يبدو جلياً في هذا المقطع الإنجيلي أن الأب كان ضعيفاً بالإيمان وهذا ظاهر من خلال إلقائه اللوم على التلاميذ على أنه لم يكن باستطاعتهم شفاء ابنه. ” لقد قدّمتهُ لتلاميذك فلم يستطيعوا أن يشفوه”. في رواية مرقس يظهر أيضاً قلّة إيمان الأب من طريقة طلبه من الربّ يسوع شفاء ابنه ” لكن إن كنتَ تستطيع شيئاً فتحنَّن علينا وأعنّا ” (مرقس 9: 22).

يُلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن ليس جميع التلاميذ كان لديهم ضعف في الإيمان إذ أن ثلاثة منهم: بطرس ويعقوب ويوحنا والذي يدعوهم بولس في غلاطية ب ” أعمدة الإيمان ” (غلاطية 2: 9) لم يكونوا موجودون مع الجموع وبقية التلاميذ حين أحضر الأب ابنه للتلاميذ إذ أن هؤلاء الثلاثة كانوا على الجبل مع الربّ يسوع عند التجلّي (متى 17: 1).

لقد أجاب الربّ يسوع هذا الرجل الذي حاول إلقاء اللوم على التلاميذ وليس على ضعف إيمانه بالقول: ” أيها الجيل الغير المؤمن الأعوج، إلى متى أكون معكم؟ حتى متى أحتملكم؟”. هذا القول العنيف والحازم لم يستهدف الأب الذي قَصَدَ يسوع بل إنه موجَّه من خلال الجمع والتلاميذ إلى كل إنسان لا يؤمن. في إنجيل مرقس يوجد المزيد من التفاصيل عن الحوار الذي دار بين الربّ يسوع وأب الصبي قَبْل شفاء الصبي الفعلي. من بعد أن وبّخ الربّ يسوع الجمع على قلة إيمانهم من دون إهانة أي شخص بالإسم توجّه نحو الأب شخصياً بالقول: ” إن كنت تسطيع أن تؤمن كل شيء مستطاع للمؤمن”. عندها أجاب الأب بهذه العبارة التي تصلح لكل شخص أن يُرددها على مدى الأجيال: “أؤمن يا سيّد فأعِن عدم إيماني” (مرقس 9: 24). لم يتوجه الرّب يسوع بالتوبيخ مباشرة نحو الأب الموجوع ولم يُدِنه أو ينتهره لوحده بأنه كان يفتقر إلى الإيمان بل إلى كل الحاضرين أيضاً بالقول ” أيها الجيل الغير المؤمن”. لقد أظهر الرّب يسوع كعادته الكثير من الرعاية والوداعة واللطف تُجاه هذا الأب المفجوع والمتألم.

من بعد شفاء الصبي وإخراج الشيطان منه، أتى التلاميذ إلى يسوع على انفراد ليستفسروا منه ” لماذا لم نستطع نحن أن نخرجه؟” كان لديهم هذا القلق من عدم قدرتهم على إخراج الشيطان. ” لقد كان الربّ قد أعطى لتلاميذه قبلاً سلطاناً على الأرواح النجسة حتى يُخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف” (متى 10: 1). يبدو أن قلة أو ضعف الإيمان كان السبب وراء عدم قدرتهم على طرد الشيطان.

يُقدم الربّ يسوع موضوع الإيمان ويُشدّد عليه على أنه شرط أساسي للشفاء. في كل المعجزات يطلب الرّب يسوع من السائل أمراً واحداً: “هل تؤمن؟ فليكن لكَ بحسب إيمانك”. يُشدّد الربّ يسوع على ضرورة الإيمان الذي بمقدوره أن ” ينقل الجبال ” بمعنى آخر بمقدورالإيمان أن يفعل ما هو غير مستطاع بالقدرة البشرية. يكتب القديس كيرللس الأورشليمي: “كحبة من بذور الخردل صغيرة الحجم ولكنها قوية في الفعل، عندما تزرع في قطعة أرض صغيرة تطلق العديد من البراعم، وعندما تنمو، يمكن أن توفر مأوى للطيور، هكذا الإيمان بالرب يسوع ستحصل منه على إيمان يتجاوز قوة الإنسان”.

” يتابع الربّ يسوع تعليمه أن هذا الجنس، أي جنس الشيطان ” لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”.  الصوم والصلاة يُعتبران عامودان للحياة الروحية ودعامة للإيمان. لقد سبق الربّ وعلَّم تلاميذه أهمية الصوم والصلاة سابقاً  في الموعظة على الجبل (متى الإصحاح 6).

يُعلِّم القديس مكسيموس المعترف عن نوعين من الأهواء، الأهواء الجسدية والأهواء النفسية. الصوم هو الدواء ضد الأهواء الجسدية والصلاة هي الدواء ضد كل أهواء النفس. الصوم والصلاة كلاهما ضروريان في جهاد النفس ضد هذا “الجنس” وكلاهما يشددّان الإيمان. ينتهي المقطع الإنجيلي بأن سبق الربّ وأخبر تلاميذه ليس فقط عن آلآمه وموته بل أيضاً عن قيامته في اليوم الثالث. لقد بدأ يُحضِّر تلاميذه لأمر يبدو غير متوقعاً لديهم من أجل أن يُشدِّد إيمانهم حتى عندما تحصل هذه الأمور لا يفقدون إيمانهم فيه.

هذا المقطع الإنجيلي يعود ويُذكرنا بأهمية الإيمان بشخص الرّب يسوع ويعود ويُظهر وجه الربّ الرؤوف والمتحنِّن الذي يُعين شعبه ويتحنَّن عليهم. و من جهة أخرى يؤكد سلطان الربّ يسوع على الشيطان وغلبته عليه و هو الذي سوف يسحق قوته عند موته على الصليب ومن ثم بقيامته المجيدة.

                                                                                                             آميـــــــــــــن

                                                                                                   + المتروبوليت باسيليوس