يحتفل العالم المسيحي في الخامس والعشرون من شهر كانون الأول بعيد ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح. القراءة الإنجيلية من انجيل متى الإصحاح (2: 1- 23) كما نجد قصة الميلاد في انجيل لوقا 2: 1- 20 .
See article in English- Click Here
في هذا اليوم لا نعيّد لميلاد الطفل يسوع ولكن نعيّد لسرّ التجسّد الإلهي، ” الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا فرأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً ” (يوحنا 1: 14)، بولس الرسول يدعوه سر التقوى ” الله ظهر في الجسد” ( اتيموثاوس 3: 16).
قصة الميلاد في الإنجيل هي قصة حبّ، قصة حبّ من الله نحو البشر. لقد عاش العالم القديم في حالة انتظار طويل من أجل قدوم المخلّص. لقد أرسل الله الأنبياء الذين تنبئوا عن ميلاد المخلّص من البتول في بيت لحم. ” ولما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ ، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس لننال التبنّي “(غلاطية 4: 4).
لقد كان الله عند قدماء الفلاسفة مجرد متفرِّج ينظر إلى العالم من فوق، من عرشه وهو غير مبالٍ بآلامهم وأحوالهم. لقد كانت رغبة البشرية أن ينزل الله عن عرشه ويعيش مع العالم ويشعر بألامهم وبؤسهم. لقد عبّر أشعيا النبي عن هذه الرعبة عندما صرخ قائلاً: ” ليتك تشقّ السموات وتنزل” (أشعياء 64: 1). وهذا ما حصل تماماً في يوم الميلاد، لقد شقّ الله السموات ونزِل. لقد تجسّد الأقنوم (الشخص) الثاني من الثالوث الأقدس ليُخلِّص العالم. لقد بشَّر الملائكة الرعاة الساهرون في البريّة قائلين لهم: ” لا تخافوا، فهأنذا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب، إنه قد وُلد لكم اليوم مخلّصٌ وهو المسيحُ الربّ “.(لوقا 2: 10- 11).
يُلخّص القديس أثناسيوس الكبير غاية وهدف تجسُّد المسيح بالعبارة التالية: ” لقد تأنَّس الإله لكي يتألَّه الإنسان ”
نقرأ في صلاة غروب العيد:” اليوم السماء والأرض قد اتحدتا بولادة المسيح، اليومُ الإله على الأرضِ ظهر، والإنسان إلى السمواتٍ صَعِدً “.
في يوم الميلاد، أي في التجسّد الإلهي تنازل الله إلى أقصى أعماق الشقاء البشري حاملاً كإنسان كل ثِقل آلام البشر وحزنهم حتى الموت، موت الصليب. لقد اختبرَ واحتملّ في حياته كل ما يمكن أن يختبره ويحتمله أي إنسان من قلقٍ ويأس وألم ووجع ومعاناة، لقد اختبر كل شيء ما عدا الخطيئة. يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: ” لأن ليسَ لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مُجرَّبٌ في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة” (عبرانيين 4: 15- 16).
لقد استخدم يسوع لقب ” ابن الإنسان ” عندما تكلَّم عن ذاته وهذا اللقب يُشير إلى الطبيعة البشرية للسيّد المسيح كما أن لقبه ” ابن الله ” يُشير إلى الطبيعة الإلهية. فيسوع المسيح كان إلهاً تاماً وإنساناً تاماً. كان شخصاً واحداً بطبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية. هو إله تام وإنسان تام في نفس الشخص، كما حدّد آباء المجمع المسكوني الرابع.
الإحتفال بعيد الميلاد أي بتجسّد الكلمة يعني إقراراً منا بإنجاز كل التدبير الإلهي الخلاصي وإكمال النبؤات والوعود منذ العهد القديم. يشرح القديس غريغوريوس اللاهوتي معنى عيد الميلاد في حياتنا فيقول:
“إننا نعيّد لمجيء الله إلينا لكي نعود نحن إليه، فنخلع الإنسان القديم ونلبس الجديد. كما مُتنا في آدم سنحيا في المسيح أيضاً”.
في يوم الميلاد، يوم ظهور الله على الأرض كإنسان لأجلنا، كل فردٍ من المخلوقات وكل عنصرٍ من عناصر الطبيعة قدَّم شكره وهديته للمسيح بطريقته الخاصة، نقرأ في صلاة غروب العيد أن ” الملائكة قدّموا التسبيح والسموات الكوكب، المجوس الهدايا والرعاة التعجّب والأرض المغارة والقَفِرالمزود، وأما نحن فأمّاً بتولاً”. لم يَرى البشر أعظم وأكرم من هذه الهدية أي العذراء مريم ، الدائمة البتولية والكليّة الطهارة لتُمثل الجنس البشري بأكمله.
ونحن مدعوون أيضاً في هذا اليوم. كلاّ منّا على المستوى الشخصي، أن نقدِّم شيئاً للربّ المتجِّسد في يوم مولِده. فلنقدِّم له قلوبنا مزوداً يتكأ فيه فيُنير ظلمة خطايانا وأهوائنا.
لقد تنازل الربّ يسوع و اتكأ في مزود حقير ومغارة وضيعة وصغيرة، ولكن بحضوره في هذا المكان الوضيع أناره وقدّسه بشعاع نوره الألهي. هذا ما سوف يحدث معنا، قلوبنا وضيعة وغير لائقة به ولكن فلنستعد لإستقباله ولنهيء له مكاناً وهو بحضوره سوف يُطهّره وينيره ويُقدِّسه.
لنقدّم للمولود الإلهي أيضاً وزنات أعمالنا الصالحة كهدايا له عِوض الذهب واللبان والمرّ ولنعيّد بطريقة مختلفة عما يعيِّده أهل العالم، كما يُعلِّمنا القديس غريغوريوس اللاهوتي قائلاً: ” فلنعيّد إذاً لا بالمهرجانات الصاخبة بل بأسلوب إلهي، لنعيّد لا بطريقة عالمية بل بطريقةٍ تفوق العالم. لا بما يخصنا وإنما بما يختصّ بالربّ. لا بما فيه مرضنا بل بما فيه عافيتنا. لا بما يتعلق بأمور وجودنا وحسب بل بما يؤدي إلى تجديدنا”. ولنتذكر على الدوام ان تجسِّد الربّ يسوع هو سبب وغاية هذا العيد. آميـــــن.
المسيح وُلدَ فمجِّدوه
+ المتروبوليت باسيليوس قدسية