حادثة اهتداء زكّا العشّار (لوقا 19: 1- 10)
January 23rd, 2020 | Available in English | By His Eminence, Metropolitan Basilios [avatar user=”metropolitan” size=”50″ align=”right” link=”https://www.antiochian.org.au/author/metropolitan/” target=”_blank”][/avatar]
هذا الأحد هو الأحد الخامس عشر من لوقا والمقطع الإنجيلي عن حادثة اهتداء زكّا العشّار من (لوقا 19: 1- 10).
أحداث المقطع الإنجيلي تدور فيما يسوع مجتاز في أريحا المحطة الأخيرة قبل وصوله إلى أورشليم (لوقا 19: 28).
لقد التقى يسوع عند وصوله إلى أريحا برجل أعمى كان جالساً على الطريق يستعطي، هذا الأعمى طلب من يسوع أن يُبصر فشفاه يسوع من عماه الجسدي وكان ذلك سبباً لإستعادة بصيرته الروحية أيضاً إذ يقول الإنجيل أنه في ” الحال أبصر وتبعهُ وهو يُمجِّد الله ” ( لوقا 18: 43).
بعدها يتكلم المقطع الإنجيلي عن زكّا العشّار الذي يصفه لوقا الإنجيلي قائلاً أنه ” كان رئيساً على العشّارين وكان غنياً “. لنوضح قليلاً من هم العشّارون والذي كان زكّا رئيساً على مجموعة منهم.
كان العشّارون يَجبون الضرائب من التجار وغيرهم وكانت تُدفع هذه الضرائب إلى خزينة الدولة الرومانية. لهذا السبب كانت فئة العشّارين مكروهة من اليهود وهو أمر منطقي لأنهم كانوا يُمثلون سيادة روما وكثيراً ما كان العشّارون يُغالون في تقدير الضرائب ليضعوا الفائض في جيوبهم. كان معلموا الشريعة يصنفونهم في نفس الفئة مع الخطأة واللصوص ( لوقا 5: 30 و7: 34) وكانوا يُعتبرون خَوَنَة يبيعون خدماتهم للدولة الأجنيبة المُستعمِرة لكي يجمعوا لأنفسهم ثروات على حساب قومهم.
لقد استعمل الربّ يسوع ” العشّار ” كنموذج للإنسان التائب فاختار مثَل ” الفريسي والعشّار ” فوبّخ الفريسي على إدعائه ” البرّ الذاتي ” وقَبِل توبة العشّار المتواضع. كما أنه لم يتوانى أن يختار عشّاراً ( جابي ضرائب) وهو متى العشّار ليكون في صف الإثني عشر تلميذاً. واعتبر أن باب التوبة مفتوح للجميع بما فيهم ” العشّارون” إذ أجاب عندما سؤِل ” لماذا يأكل معلمكم مع العشّارون والخطأة ” أنه ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المَرضى إذ لم آتِ لأدعو أبراراً بل خَطأة إلى التوبة” .( لوقا 5: 32).
بالعودة إلى زكّا العشّار، يبدو أنه سَمِع عن يسوع وعن تعاليمه ومعجزاته وعن أنه كان يقبل العشّارين وكان ” يأكل ويشرب معهم “(لوقا 5: 30) فكان لديه شوق أن ” يرى يسوع من هو!” ولكن كان هناك أمران يُعيقان ويَحولان دون رؤيته ليسوع: الأول، الجموع الكثيرة والتي لم ترحِّب بوجود إنسان خاطئ بينها والعائق الثاني أنه كان قصير القامة، ليس فقط من جهة الجسد ولكن من الناحية الروحية أيضاً. ولكن هذا العائق لم يمنعه من فِعل ما كان يُعتبر تصرفاً صبيانياً ومُخجلاً لا يليق ” برئيس العشارين”. لم يكترث زكّا العشّار بما سوف يقوله الناس عنه أو عن انتقادهم له أو حتى سخريتهم منه. لقد أراد أن يرى يسوع ولذلك تقدّم مسرعاً وصَعِد إلى جمّيزة. ولكن قبل أن يرى يسوع، رآه يسوع ودعاه باسمه. بنفس الطريقة، الربّ دائماً في حالة انتظار لنا عندما يرى أننا لدينا الرغبة في ملاقاته.
لقد دعاه قائلاً: ” يا زكّا أسرع فانزل فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك”. يقول القديس كيرللس الإسكندري: ” لقد رأى الربّ يسوع نَفَس هذا الرجل الذي يسعى بجديّة ليعيش حياة مقدسّة، لذلك هداه إلى حياة التقوى”. لقد أسرع زكّا ونزل وقبِل يسوع فرحاً في بيته. يقول ( المغبوط أغسطينوس): “الربّ الذي كان قد رُحِّب به في قلب زكّا العشّار أولاً كان الآن على استعداد للترحيب به في منزله أيضاً “.
لم يذهب جهد ومسعى زكّا سُدى فقد اختاره الربّ يسوع من بين كل الحشود المحيطة به ليدخُل بيته وينال البركة والخلاص. ” اليوم ينبغي لي ” لا تحمل معنى ” إجبار” الربّ يسوع بالفعل ولكن تُظهر لنا كيف أن الربّ يقدّر كل محاولة بشرية ويُكملَّها بالمبادرة الإلهية هذا ما يُسمّى في أدبنا المسيحي بالتعاون (Synergy) بين المساهمة البشرية والمساهمة الإلهية.
في كل مرة يَقبل فيها الربّ يسوع أحد الخطأة يتذمّر الجموع حوله ولم تكن هذه الحادثة استثنائاً فيقول الإنجيلي: ” فلما رأى الجمع تذمّروا قائلين إنه دخَل ليحلّ عند رجل خاطئ “. ولكن موقف الجموع السلبي هذا لم يَمنَع زكّا من أن يُتابع مسيرته نحو التوبة الكاملة. لا أحد يلتقي بالربّ يسوع ويستطيع أن يبقى عائشاً في الخطيئة. لقد وقف زكّا وقال ليسوع: ” هانذا أعطي يا ربّ المساكين نصف أموالي وإن كنت قد غبنت أحداً في شيء أردّ أربعة أضعاف” لم ينتظر زكّا حكم الشريعة بل جَعَل من نفسه قاضياً على نفسه.
لقد مارس زكّا ما يُعرف بالكنيسة الأولى ” بالإعتراف العلني “. لقد أظهر زكّا توبة حقيقية و ما التوبة إلاّ تغيير الذهن، تغيير أسلوب الحياة. لقد أظهر زكّا توبة صادقة بالفعل وليس بالكلام فقط. إذ لم يكتفِ فقط بالإعتراف بل أظهر الإستعداد أيضاً لإصلاح ما قد أخطئ به ” سوف يردّ أربعة أضعاف” للذين ظلمهم ويُعطي المساكين نصف أمواله التي هي من تَعَبه وحقّه.
هذا الإعتراف وموقف التوبة كان كافياً للربّ يسوع أن يَقبل توبته قائلاً: ” اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت”. اليوم، الآن في هذه اللحظة وفي هذا المكان تمّت توبة زكّا وقبوله. ” هو أيضاً ابن لإبراهم” ليس كونه من ذريّة ابراهيم بحسب الجسد ولكنه ابن ابراهيم بحسب الإيمان. يعود الربّ يسوع ويُذكّر الجموع وتلاميذه بسبب مجيئه ورسالته ” لأن ابن البشر إنما أتى ليطلب ويُخلّص ما قد هلَك”. لقد كانت الدعوة إلى التوبة ” توبوا “! نقطة الإنطلاق في بشارة المسيح.
لم يكن زكّا بالنسبة إلى يسوع مجرد عشّار خاطئ بل كان مشروع توبة. لقد نظر الربّ يسوع إلى زكّا نظرة مُختلفة عن نظرة الجموع إليه. نظرة عطف ومحبة وقبول، هذه النظرة هي ما دفعت زكّا ليفتح قلبه إلى التوبة ومن ثم بيته ليقبَل يسوع كمخلّص.
يجدر بنا نحن المسيحيين أن نُشابه زكّا العشّار وأن نتخطى الجموع التي تحجبنا عن رؤية المسيح. ينبغي لنا أن نتواضع لنتجاوز قِصرَ قامتنا الروحية ونبحث عن جميزّة لنصعد عليها ليحصل هذا اللقاء بيننا وبين المخلّص. يقول القديس تيوفيلاكتس: ” قل ما شئت ولكن بالنسبة لنا نحن المسيحيين هلمَّ نتسلق شجرة الجميزّة ونرى يسوع. السبب في أنك لا تستطيع رؤية يسوع هو أنك تخجل من أن تصعد على الجميّزة. يجب أن لا نخجل من صليب المسيح وأن نتسلقه لننال الخلاص”.
آميــــــن
+ المتروبوليت باسيليوس قدسية