December 13th, 2019 | Available in English | By His Eminence, Metropolitan Basilios [avatar user=”metropolitan” size=”50″ align=”right” link=”https://www.antiochian.org.au/author/metropolitan/” target=”_blank”][/avatar]

الأحد الحادي عشرمن لوقا

هذا الأحد هو الأحد الحادي عشر من لوقا ويُعرف أيضاً ” بأحد الأجداد ” وهو يأتي قبل ميلاد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد وفيه نُقيم تذكار جميع الآباء الأبرار من العهد القديم، من ابراهيم مروراً بجميع الأبرار وأنبياء العهد القديم الذين حضَّروا وتنبأوا بمجيء المسيح ( المسيّا ) المخلِّص.

القراءة الإنجيلية من لوقا الإصحاح ( 14: 16- 24 ) وهي عن مثَل يُعرف ب”مثل المدعوين إلى العشاء” أو مثل”العشاء العظيم” وهذا المثل قاله يسوع بينما كان مدعواً إلى ” بيت أحد رؤساء الفريسيين في السبت ليأكل خبزاً ” ( 14: 1) وكان الفريسيون ” يُراقبونه “. لقد ألقى يسوع هذا المثل في بيت الفريسي بعد أن حذّرهم من “الجلوس في أول المتكآت” ثم أعطاهم تعليماً عن الحب والعطاء قائلاً لهم: ” إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدعُ أصدقائك ولا إخوتك لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة، بل ادعُ المساكين والجدع والعرج والعميان” (14: 13).

يأتي هذا المثل رداً على قول أحد المتكئين: ” طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله”. في تعليقه على هذا القول يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: ” يبدو أن هذا الرجل كان جسدياً ومُستمعاً غير مبالي للأمور التي سلَّمها المسيح، ولم يتمكن من فهم ما تكلم به المسيح بشكل صحيح، لقد ظنّ أن المكافأة للقديسين هي مكافأة جسدية وليست روحية”.

يبدأ المثل بقول الربّ: ” إنسانٌ صنع عشاءً عظيماً ودعى كثيرين فأرسل عبده في ساعة العشاء يقول للمدعوين”. يرى بعض الآباء القديسون ( كيرللس الإسكندري) في هذا الإنسان صورة عن الله ” الآب ” الذي أرسل ابنه الوحيد، الربّ يسوع المسيح، والذي بحسب الرسول بولس ” أخلى نفسه آخذاً صورة عبدٍ صائراً في شبه الناس” ( فيلبي 12: 7). تبدوالصورة أوضح في هذا المثل بحسب الإنجيلي متى (28: 1- 14) إذ يجعل من هذا الإنسان ” مَلِكاً صنع عُرساً لإبنه ” (متى 28: 1). لقد أرسل الله ابنه الوحيد ليدعو شعبه إلى الخلاص.

هذا الإنسان النبيل قد جهّز العشاء وأرسل عبده ليقول للمدعوين: ” تعالوا فإن كل شيء قد اُعِّد” كل شيء جاهز ولا ينقص إلا حضوركم. قد يتوقع الإنسان أنه من الصعب رفض مثل هكذا دعوة ولكن الأمر الغريب أن المدعوين ” طَفِقَ كلّهم واحداً فواحد يستعفون “. لقد اعتذر الجميع عن الحضور متعللين بأسباب وحجج مختلفة، لكنها من حيث جوهرها هي واحدة، يقول القديس باسيليوس الكبير: ” لم يستطيعوا المجيء وذلك لأن الذهن البشري عندما يكون منشغلاً بالإهتمامات العالمية يُصبح ضعيفاً في الإهتمام في الأمور التي لله”.

لقد اختصر الربّ يسوع هذه الإهتمامات البشرية بما يلي: الأول، اشترى حقلاً، والثاني لديه خمسة أزواج بقر يُريد أن يجرِّبها، أما الأخير فيقول أنه تزوج من امرأة وهو لا يستطيع أن يأتي. هذه النماذج الثلاثة تُلخِّص في جوهرها كافة الأعذار والإهتمامات البشرية.

يُفسر القديس غريغوريوس اللاهوتي هذه الإهتمامات بالنحو التالي: أولاً،الذي اشترى الحقل هو الإنسان الذي لديه هوى الإقتناء، لقد كان الفريسيون والكتبة متعلقين بحقولهم، أي ممتلكاتهم الدنيوية، لم يكن لديهم لا الوقت ولا الرغبة في التفكير في نفوسهم وخلاصها.

أما الثاني الذي اشترى خمسة أزواج من البقر، فهي تُشير إلى حواس الإنسان الخمسة والتي بحق يجب أن تُسمى “بالنير كونها مزدوجة في كلا الجنسين”. (العظة 35 من لوقا). هذه الحواس هي عطية مهمة من لله وهي تعطينا إمكانية أن نتواصل مع العالم الخارجي ولكن هذه الحواس عندما تخضع للشهوة تحيد عن هدفها الطبيعي وتُصبح خادمة للشرير.

أما الثالث الذي قد تزوج، فمن الواضح أن الهدف ليس إهانة الزواج والذي هو سرّ مُقدّس ولكن ماذا الذي يجب أن يفهم  من الزوجة هنا “هو إشباع الشهوات الجسدية” (غريغوريوس اللاهوتي).

يكتب القديس يوحنا الإنجيلي في رسالته الأولى: ” لا تُحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين وتعظّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم”. يمكن أن نرى هنا الرابط بين اهتمامات المدعوين وهذه الأنواع الثلاث من الشهوات التي يذكرها الإنجيلي يوحنا. فالأول يمثل شهوة تعظّم المعيشة، أي حبّ اقتناء الممتلكات الدنيوية أما الثاني فيمثل شهوة العين، عندما تنحرف الحواس عن هدفها الأصلي والثالث يمثل شهوة الجسد وإشباع رغباتها.

عندما رفض المدعوون هذه الدعوة، أرسل السيّد عبده قائلاً: ” اخرج سريعاً إلى شوارع المدينة وأزقَّتِها وأدخل المساكين والجدع والعميان والعرج إلى ههنا”. لقد سبق الربّ يسوع وأعلن للمتكأين معه قائلاً: إذا صنعتَ ضيافةً فاُدع المساكين والجدع والعميان”. ” لقد اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء واختار الضعفاء ليخزي الأقوياء” (1 كور 1: 27- 28). لقد رفض المدعوون من نخبة الشعب ومن الفريسيين، والكتبة العارفين بالكتب المقدسة ورؤساء الكهنة دعوة الربّ يسوع فأصبحت الدعوة موجهة إلى العشارين والزناة والخطأة، “إذ ان العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله ” (متى 21: 31 ) وأيضاً ” كثيرون أولون يكونون آخرين وآخرون أولين “(متى 19- 30) وبرغم ذلك عاد العبد ليقول لسيّده: ” قد قضي ما أمرت به ويبقى أيضاً محلّ “. فقال السيّد للعبد: “اخرج إلى الطرق والأسيجة واضطرهم للدخول حتى يمتلىء البيت”.

لقد سكب الله رحمته أيضاً على الوثنيين وهذا ما يشير إليه ” الذين في الطرق والأسيجة ” الطريق يشير هنا إلى طريق حياة الأمم الوثنية الذي ضلّوا عن طريق التعليم القويم وقادهم ذلك إلى تعاليم خاطئة. أما الأسيجة فتشير هنا إلى حياة الخطيئة التي كانوا يعيشونها لأن الخطيئة بمثابة السياج أوالحائط  الذي يفصلنا عن الله” (القديس باسيليوس الكبير).

يقول السيّد للعبد: ” اضطرهم إلى الدخول حتى يمتلىء بيتي” بالطبع لا يحمل الطلب هنا معنى الإجبار بالإكراه، ولكنه يحمل معنى الإصرار والعزم الثابت للسيّد بإكمال الدعوة إلى العشاء وإن رفض المدعوين الدعوة فإن هذا لا يثني عزيمة السيّد من أن يُرسل دعوته إلى آخرين، لمن هم من الخارج. يقول السيّد في سفر الرؤيا: ” هانذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي (رؤيا 3: 20).

إن الربّ الإله منذ العهد القديم ومروراً بالعهد الجديد إلى يومنا هذا يستخدم طُرُقاً مختلفة ووسائل متعددة من أجل دعوة البشرية إلى الخلاص لأنه ” يُريد الجميع أن يخلصوا وإلى معرفة الحق أن يُقبلوا” ( تيموثاوس 2: 4).

إن الآية الأخيرة في إنجيل اليوم ” ولأن المدعوين كثيرون والمختارين قليلون” هي آية مُضافة إلى المقطع الإنجيلي وهي مأخوذة من( متى 12: 14) وقد أُضيفت إلى المقطع الإنجيلي حتى يكتمل معنى النص.

لقد رأت الكنيسة المقدسة في مَثَل هذا العشاء صورة عن الوليمة السماوية المذكورة في سفر الرؤيا، إذ يقول الملاك للإنجيلي يوحنا: ” اكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف” ( رؤ 9: 9) هذه الدعوة السماوية ليست إلا سرّ الأفخارستيا المقدسة، المشاركة في جسد الربّ الطاهر ودمه الكريمين.

هذه الدعوة إلى ” وليمة الإيمان” نجد لها صدىً في عظة القديس يوحنا الذهبي الفم في الفصح المقدس، يكتب: ” ادخلوا إذاً جميعكم إلى فرح ربكم، أيها الأولون والأخيرون. أكرموا هذا النهار، المائدة ملآنة فتنعموا جميعكم. العجل سمين فلا يخرج أحد جائعاً. تمتعوا جميعكم بوليمة الإيمان”

لقد أرسل الله ابنه الوحيد، كلمة الله المتجسِّدة، الذي بذل حياته على الصليب من أجل خلاص العالم فكان هو ” المُقرِّب والمُقرَّب، القابل والمُوَزِّع “، والذي أعطانا جسده الطاهر ودمه الكريمين المهراق من أجل حياة العالم، فاليوم ” إن سمعتم صوته فلا تقسُّوا قلوبكم” (عبرانيين 3: 15) بل فلنبادرإلى الذي دعانا إلى هذه الوليمة السماوية حتى نصير مشاركين الحياة الأبدية والملكوت المساوي. آميــن.

+ المتروبوليت باسيليوس قدسية