في الأحد السادس من بعد الفصح، أي الأحد الذي يقع بين خميس الصعود وأحد العنصرة، تُقيم الكنيسة الأرثوذكسية تذكار آباء المجمع المسكوني الأول المجتمعين في نيقية عام 325 م. القراءة الإنجيلية هي من إنجيل يوحنا الإصحاح ( 17: 1- 13) أو ما يُعرف بصلاة يسوع الكهنوتية الأخيرة قبل آلآمه وموته على الصليب. لقد رتّبت الكنيسة أن تُقيم تذكار هؤلاء الآباء بعد خميس الصعود للتأكيد على تعليمهم من أن الربّ يسوع الصاعد بالجسد هوإله حقيقي وهو أيضاً إنسان تام بحسب الجسد.

في الكنيسة الأرثوذكسية يوجد سبعة مجامع كبيرة تسمى ” بالمجامع المسكونية ” أولها انعقد في نيقية سنة 325 م وآخرها المجمع المسكوني السابع المنعقد في نيقية (تركيا حالياً) أيضاً سنة 787 م. لقد اجتمع الآباء القديسون وعددهم 318 في نيقية للرد على هرطقة آريوس الذي ادّعى مجدِّفاً إذ أنكر ألوهية الإبن وادعى أن الإبن ليس مساوٍ في جوهر الآب، وقال أنه هناك وقت لم يكن الإبن موجوداً فيه واعتبره أرفع بين مخلوقات الله ومن صُنعه.

لقد دحض الآباء القديسون بدعة آريوس وشهدوا للإيمان المستقيم، فاعترفوا بأن المسيح هو إله حقيقي وتام مساوٍ للآب في الجوهر وهو وحده يستطيع أن يفتح للإنسان طريق الإتحاد به أي ” التأله “. إن الرب يسوع الكلّي المعرفة والحكمة، صلى قائلاً: ” هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح”. لقد أدركت الكنيسة المقدسة بأن أي تعليم هرطوقي فاسد وأي تغيير في هذه المعرفة (الخبرة) المستقيمة سوف يكون لها نتائج كارثية على خلاصنا.

إن الحياة الأبدية تتطلب معرفة حقيقية ومستقيمة عن الإله الآب والإبن يسوع المسيح. إن أيَّ مَسٍّ في العقيدة المسيحية هو سيؤدي لا محال لضياع الحياة الأبدية، أي خلاصنا في الرب يسوع. فإذا لم يكن الربّ يسوع مساوي للآب في الجوهر لاستحال عليه أن يخلص العالم وتالياً أن يوصله إلى غاية تدبير الله الآب أي التأله. لقد انعقد المجمع المسكوني عام 325 أي بعد 12 سنة من إعلان ” براءة ميلان ” 313م حيث توقفت الإضطهادات العلنية ضد الكنيسة. لقد حضر هؤلاء الآباء القديسون وكل واحد منهم يحمل في جسده ” سمات الربّ يسوع ” أي علامات الإضطهادات التي احتملوها ليشهدوا للرب ّ يسوع الغالب، فأتى البعض وآثار الجروح والتعذيب ظاهرة جلياً على أجسادهم وآخرون أتوا بأعضاء مبتورة ومشوَّهة فلم يكن إيمانهم مجرّد تعاليم فلسفية ولاهوتية نظرية بل كانت ثمرة الجهاد والإستشهاد، كان إيماناً حيّاً مُعاشاً مُحققاّ لتعليم السيّد :” إذا كانوا قد اضطهدوني قبلاً فاعلموا أنهم سوف يضطهدونكم” وأيضاً ” في العالم سيكون لكم ضيقٌ ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم “. لذلك تمدحهم الكنيسة المقدسة على أنهم: ” جيشٌ إلهي وجنود معسكر الربّ اللاهجين بالله، أبراجاً منيعة لصهيون السرية، أزهار الفردوس العطرة الشذّى والأنوار الذهبية للكلمة “.

إن الربّ يسوع يعلم تمام العلم أن الهرطقات أي التعاليم الكاذبة والفاسدة هي تشكل خطراً أكبر من الإضطهادات الخارجية المُعلنة، هي كالزؤان الذي يخنق الثمار الصالحة لذلك صلّى في صلاته الأخيرة إلى الآب من أجل وحدة الكنيسة. وحدة الكنيسة حول سيّدها ومخلّصها الربّ يسوع قائلاً: ” أيها الآب القدّوس احفظهم باسمك الذي أعطيتهم لي ليكونوا واحداً كما نحن”.

لقد صلى الربّ يسوع في صلاته الأخيرة من أجل تلاميذه وأيضاً من أجل الذين يؤمنون به من خلالهم قائلاً: ” أنا من أجلهم أسأل، لا أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتهم لي لأنهم لك، كل شيء لي هو لك وكل شيء لك هو لي وأنا قد مُجِّدت فيهم “. إن صلاة المسيح هي مبدئياً للتلاميذ الذين قَبِلوه ولكن الأمر يمتد ليشمل كل الذين يقبلونه عبر الأجيال ويسمعون كلماته ويحفظونها ويحيونها.

عندما يقول يسوع ” لا أسأل من أجل العالم ” هذا لا يعني أنه يكره العالم ولا يُصلي من أجله ولكن يعني هنا ” بالعالم ” العالم الفاسد والساقط. إن كلمة ” العالم ” بحسب الإنجيلي يوحنا تحمل عدّة معاني، المعنى الأول ” العالم ” بمعنى الكون ككل، خليقة الله، أما المعنى الثاني لكلمة ” العالم” تأتي بمعنى البشر، الإنسان الذي هو تاج كل المخلوقات، كل شي خُلق من أجل خدمته، أما المعنى الثالث لكلمة ” العالم ” تعني عالم الشر والخطيئة، المسيح حسب يوحنا يدعو إبليس ” رئيس هذا العالم ” (يوحنا 14: 30، 12: 31، 16: 11) العالم الساقط ،عالم الشر والخطيئة وكل من يتبعون شهوات هذا العالم، أتباع إبليس.

لقد صاغ هؤلاء الآباء القديسون المجتمعون في نيقية القسم الأكبر فيما يُعرف اليوم ” بدستور الإيمان” وبخاصة فيما يتعلق بالإبن، أنه: “نورٌ من نور، إلهٌ حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر” وتمّت تكملته لاحقاً في المجمع المسكوني الثاني.

إننا مدعوون اليوم لكي نكون أمينين لتعليم كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة، التعليم القويم الذي تسلمناه من الربّ يسوع ومن بعده من الرسل القديسن الأطهار والذين وضعوه بحكمة إلهية الآباء القديسون في المجمع المسكوني الأول وما تلاه من المجامع المسكونية اللاحقة.

الحياة الأبدية هي أن نعرف المسيح وهذه المعرفة ينبغي أن تكون حقيقة كما هو كشفها لنا بدون زيغ أو تشويه أو تغيير. عندما نُغيّر ونحرِّف هذه المعرفة الحقيقية نخسر حينها الحياة الأبدية .

” أيها الربّ الكلي الرأفة أننا بتعييدنا اليوم لتذكار الآباء الإلهيين نرغب إليك بطلباتهم أن تنجّي شعبك من أذيّة الهراطقة كافة وأهِّلنا جميعاً أن نمجد الآب والكلمة والروح الكلي قدسه ” اكسابستلاري العيد.

آميــــــــن

+ المتروبوليت باسيليوس قدسية