See article in English – click here

” إذا أتيت يا الله على الأرض بمجدٍ، فترتعد منك البرايا بأسرها، ونهرُ النار يجري أمام عرشِك، والصُّحف تُفتَّح، والخفايا تُشهَّر. فنجِّني حينئذٍ من النار التي لا تُطفأ، وأهِّلني للوقوف عن يمينك أيها الدّيان العادل”. قنداق أحد الدينونة.

هذا الأحد يُسمى أحد الدينونة أو أحد مرفع اللحم وهو الأحد الثالث من الآحاد الأربعة التي تسبق الصيام الكبير (الصيام الأربعينين المقدّس) والتي تُعرف بآحاد التهيئة للصوم الأربعيني.

من بعد أن رأينا في الآحاد السابقة، أي في أحد الفرّيسي والعشار وأحد الإبن الضال عن أهمية الإستعداد للصوم الكبير من خلال فضيلة التواضع والصلاة المنسحقة مع العشّار وأهمية التوبة أو الرجوع إلى الله، مع الإبن الضال، يبرز موضع الدينونة  والأعمال الصالحة في هذا الأحد.

أحد مرفع اللحم، هو اليوم الأخير المسموح فيه بأكل اللحم قبل الصوم الكبير وبدأً من يوم الإثنين نرفع اللحم عن الموائد المسيحية. أما الأحد القادم فهو مرفع الجبن وهو الأسبوع الأخير الذي يُسمح فيه بأكل البياض ومن يوم الإثنين يُرفع الجبن عن الموائد ونبدأ بالصيام الكامل عن الزَفَرَين ( اللحم والبياض).

القراءة الإنجيلية من إنجيل متى الإصحاح (25: 31- 46) وهو يأتي من بعد الإصحاحات التي تتضمن كلام الربّ يسوع عن ” علامات المجيء وانقضاء الدهر” والأمثال التي تليها عن السهر والإنتظار: مَثَل الخادم الأمين والعبد الرديء، مَثَل العذارى العَشْر ومَثَل الوزنات.

في هذا الأحد تُشدّد الكنيسة على أن الصوم عن الطعام وحده لا يكفي إن لم يكن مُقترناً بالأعمال الصالحة. رسالة الأحد تشرح هذه الفكرة بقول الرسول بولس: ” يا أخوة، إن الطعام لا يُقربنا من الله، لأن إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص ” ( 1 كور 8: 8). يأتي الجواب على كيف ينبغي أن نسلك في الصوم في تعليم الربّ يسوع عن الدينونة.

تعليم المسيح عن يوم الدينونة هو ليس بمثَل بل هو وَصف لما سيحدُث في الأيام الأخير عند المجيء الثاني. هذا يؤكد حقيقة حدث الدينونة. نقول في دستور الإيمان عن المسيح أنه: ” وأيضاً سيأتي بمجدٍ ليَدين الأحياء والأموات “. هذا يؤكد أن حدث الدينونة سوف يتم عند المجيء الثاني. سوف يدين الربّ يسوع الجميع دون استثناء ” سوف تُجمع إليه كل الأمم”. نحن نصلي إلى الله الرحيم والشفوق والمُتحنّن لكننا لا يمكن أن نعزل الله عن صفاته الأخرى وهي أنه الديّان العادل أيضاً والذي سيُجازي كلُّ إنسان حسب أعماله.

يقول الربّ أنه سوف يَفرز البشر إلى مجموعتين، إلى خِراف وجِداء، لقد استعمل الربّ هذا التمييز على أساس أن كلا من الخراف والجداء هما من الحيوانات العاشبة ولكن الفرق كبير من حيث السلوك بين الخراف والجداء. فالخراف معروفة كونها وديعة ومُسالمة وهي تعيش ضمن جماعة واحدة وتعرف صوت الراعي وتتبعه (يوحنا 10: 14- 16). أما الجداء فهي رمز للشراهة والشهوة. الجدي يُفضل العيش منفرداً كما أنه يتميز بالعدوانية والشراسة.

إن الدينونة سوف تكون على أساس معيار المحبة وأعمال الرحمة، كيف نسلك مع قريبنا وكيف نُظهر له محبتنا؟ لقد وضَع الربّ يسوع المحبة والرحمة معياراً للدينونة وللفصل بين اليمين واليسار أي المخلَّصين والهالكين. ” كنت جائعاً وعطشاناً، غريباً ومريضاً أو مسجوناً ” فماذا فعلتم بي؟

لقد وحّد الربّ يسوع نفسه مع المُعذّبين والمتألمين والمنبوذين، وهو يدعوهم ” إخوتي الصغار ” وكل ما نعمله لأحد أخوة يسوع الصغار فهو يذهب إلى شخص السيّد له المجد. إن خدمة المحتاج والغريب هي خدمة للمسيح نفسه. لقد وعت الكنيسة المقدّسة أن الطريق إلى الله تمرّ عبر القريب.

يقول يوحنا الإنجيلي: ” يا أولادي لا نُحبَّ بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق ” (1 يوحنا 3: 18) ويُضيف التلميذ الحبيب: ” إذا  قال أحدٌ إني أحبُ الله وأبغضَ أخاه فهو كاذب لأن من لا يُحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يُحب الله الذي لم يُبصره ، من يُحب الله يحب أخاه أيضاً ” ( 1 يوحنا 4: 20- 21).

القديس يعقوب يسأل ما هي منفعة الإيمان بدون أعمال؟

” إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة؟ هكذا الإيمان أيضاً إن لم يكن له أعمال ميتٌ في ذاته (يعقوب 2: 14- 17).

لقد أدركت الكنيسة الأولى أهمية خدمة الآخر المُتألم عن طريقة المحبة والرحمة، القديس يوحنا الرحيم بطريرك الأسكندرية ( 619 +) يعتبر نموذجاً مهماً. القديس باسيليوس الكبير ( 379 + ) تجسيداً لفعل الإيمان بالأعمال، بنى خارج مدينة قيصرية كبادوكية (تركيا حالياً) التي كان أسقفاً عليها، مدينة أخرى سماها مدينة المحبة أو (Basiliad  )، كان مُجمّعاً خدماتياً ورعائياً متنوعاً يتضمن بالإضافة إلى الكنيسة، بيوت للفقراء، مستشفى ومضافة للغرباء وميتم ومدارس مهنية لتأمين العمل ولقمة العيش للمحاجين، التي أكسبتها شهرة عالمية كبيرة كونها كانت الأول من نوعها في العالم والذي يُجسِّد العمل الخيري المسيحي ( Christian Philanthropy )

يقول القديس مكسيموس المُعترف: ” كما أن التفكير بالنار لا يُدفأ الجسد كذلك الإيمان من دون محبة لا يُفعِّل نور المعرفة الروحية في النفس “.

إن الدينونة كأمر حقيقي يتطلب منا السهر والتأني، يتطلَّب منا فعل المحبة والإحسان نحو القريب إذ أننا سنُحاسَب على قدر الحب الذي كان باستطاعتنا إعطاؤه ولم نفعل، إن أبطأ الربّ فهذا لا ينبغي أن يجعلنا نسقط في الكسل والتهاون بل فلنُشعل قناديلنا بزيت المحبة والعمل ولننتظر بصبر إذ ” هوذا الديان واقف قدام الباب، فتأنوا أيها الأخوة إلى مجيء الربّ، فتأنوا وثبتوا قلوبكم لأن مجيء الرب قد اقترب ” (يعقوب 5: 7- 9).

أميــــــــــن

+ المتروبوليت باسيليوس قدسية